/

مقال الرأي

أحوال الناس

الأنثى تحرّر المرأة في شعر سعاد الصباح


بقلم: محمد ياسين رحمة-- إن يكُ الشعر خطيئة، فهو أعظم خطيئة إنسانية في وسعها تطهير الكائن البشري من خطاياه في حقّ الجمال والحب والحرية والطبيعة والحياة ذاتها. ومن يتوسّد الخطيئة، لا يحلم إلاّ باغتيال العصافير، لذلك يتوسّد الشعراء وسادة الحلم كي يحلم بهم الحلم فيستيقظون في أوراق دفاترهم أشعارا مُطهّرة للبشرية.

والنصوص الشعرية هي أزهار يهابها الذّبول ولا تعترف بفصول الشحوب والصقيع والكوابيس، لأن أهمّ رسائل النص الشعري أن يقاوم الذبول الإنساني ويقيم فصول الإزهار في النّفس البشرية. لذلك يُنبت الشعراء أزهارهم من أعماق أعماقهم ويجتهدون في سكب الفتنة عليها وإبداع جمالها وروعتها بصدقهم ونقائهم و"براءتهم الإنسانية".

غير أن الشاعر الذي أدرك حقيقته الشعرية هو ذلك الذي يستطيع أن يُشبع قصائده برحيق شاعريته المتميّز ويخبئ فيها طلسم الإغواء الشعري الذي يفعل بالقارئ ما يفعله السحر بالساحر. والشاعر الذي لم يدرك حقيقته الشعرية، قد تكون أزهاره آيات جمالية فاتنة ولكنها أزهار تفتقد للرحيق، لنقل أنه شاعر بلا بصمة شعرية تنطبع في النفس البشرية (نفسية المتلقي).

يقولــون :

إني كسرت بشعري جدار الفضيلة

وأن الرجال هم الشعراء

فكيف ستولد شاعرة في القبيلة؟

وأضحك من كل هذا الهراء

وأسخر ممن يريدون في عصر حرب الكواكب ..

وأد النســاء ...

وأسأل نفسي؛

لماذا يكون غناء الذكور حلالا

ويصبح صوت النساء رذيـلة؟

الشاعرة سعاد الصباح أدركت حقيقتها الشعرية، وصوّبت نحونا مجموعتها "في البدء كانت الأنثى" كي تطهّرنا بالخطيئة من كلس القرون وساعات الرمّل وثغاء الفجر. وأيضا كي تعيد جدولة حروف "الأنثوية"، هذه الأنثوية التي ارتبطت بالخجل والتردد والخفوت ومظاهر الخوف من طرق أبواب كُتب عليها "أبواب لا يطرقها إلا الرجال".. فنحن أمام أنثوية متحررة من كل خوف، ولكنها تلبسه وتتحصّن به كقوة تُفجّر الكوامن "الأنثوية" وتدفع بها أن تطرق الأبواب التي لا يطرقها الرجال.

يا هولاكو هذا العصر ..

ارفع عني سيف القهر

إنك رجل سوداوي ..

مأساوي ..

عدواني ..

لست تفرق بين دماي

وبين نقاط الحبر ... "رجل تحت الصفر"

ليس رفضا للذات ولا تمرّدا على المجتمع بقيمه موروثه، بل هذه محاولة لتجاوز الأنثوية بالمعنى الشرقي أو العربي ونحت معنى آخر يخلع عن "العربي" عباءته الحضارية كي يُبصر حقيقته. أنه طينة بشرية مجبولة من التوحّش لا تفرّق بين قراءة الجسد وقراءة الورقة، وكأن الأنثى هي مجرد ورقة في يوميات هولاكو يكتب عليها عزواته وفتوحاته بذكوريته.

ليست الديمقراطية

أن يقول الرجل رأيه في السياسة

دون أن يعترضه أحد

الديمقراطية أن تقول المرأة

رأيها في الحب ...

دون أن يقتلها أحد! "الديمقراطية"

"لغة شعرية" واقعية لا تهدف إلى التأريخ أو إعلاء صوت التنديد ولكنها لغة تعيد تكييف "القضية الأنثوية" بلغة تقتات حروفها من ملح الأزقة الضيقة ومسالك الأقدام التي تنعل البشمق ومن أحاديث الفناجين التي تخطط وتنظّر وتحلم.. نيابة عن المرأة.

حين أكون بحالة عشق ..

أشعر أن العالم أضحى وطني

وبإمكاني أن أجتاز البحر

وأعبر آلاف الأنهار

وبإمكاني ..

أن أتنقل دون جواز

كالكلمات ... وكالأفكار .. "الحب في الهواء الطلق"

أحيانا يكون الشاعر أكثر شاعرية من نصّه الشعري، يحدث ذلك عندما يكون النص الشعري بوابة الغواية إلى عوالم التيه في لذاذات المعنى المخبوء خلف الصوّر، وهناك نلمس عطر الغواية في التّحرر من أسر "الأنثوية" بتوظيف أنثوية اللغة في إعادة اكتشاف عوالم المرأة في أبعادها الإنسانية.

يقولـون؛

إني كســرت رخامة قبري ...

وهذا صحيـح .

وأني ذبحت خفافيش عصري ...

وهذا صحيـح.

وأني اقتلعت جذور النفاق بشعري

وحطّمت عصر الصفيح

فإن جرّحوني ...

فأجمل ما في الوجود غزال جريح

وان صلّبوني .. فشكرا لهم

لقد جعلوني بصفّ المسـيح ...

كمن يحاول اغتيال العدم، حاولت الشاعرة سعاد الصباح أن تغتال صنم الشعر، كي تؤكّد أن الشعر كائن حيّ يتنفّس ويقتات ويتكاثر والأهمّ أنه يعشق.. يعشق الأنثى كي تتحرّر من شرنقتها وتعلن في عوالم الذكورية أنها إنسانة عشقها الشعر فكتبته بالحروف ذاتها التي كتب بها الرجل.. وشرّبته بالمعاني التي ترتاد المجاهيل وتكسر الأبواب التي كُتب عليها "أبواب لا يطرقها إلا الرجال".