"خوانجية"
بقلم/ نسيم الواحة-- بدأ غبش النّهار يصّاعد ،يتفاقم ،يتوسّع كلّما ازداد إيغالا في العلوّ. نهق الحمار المنتفض في الرّوث ،اصطكّت قوائمه الفارعة محاولا النّهوض ، لكن هضبة البطن تعييه ، تثقله ، تمنعه القيام . صاح الديك على الرّبوة ينبّه الدّجاجات إلى ضرورة اللحاق به ، ويا ويل المناقير المتخلّفة ، ستسحقها شراسة صياحه المتهدّج ...من الجهة المقابلة للربوة ينبعث ثغاء مبحوح، يزكم الأسماع الرّخوة المشنّفة شطر الجنوب حيث تستفيق لهبة الشّمس في تكاسل غنج، ماذا دهاك’؟ تستمرئين الوقت والزّاد والعدّة ...متى تنقشع السّحب المكمّمة لسمائك ؟ سيبليك النّسيان ويقضم أنفاسك التّلبّد.
أسرعت في طيّ جلد الشّاة الغزير الصّوف ...كان ذاك الكائن الصّوفيّ أقرب دفء إليها ،يمنعها تطفّل لسعات البرد طيلة الليلة الماضية .نفّست سجف الخيمة المتآكلة .رأت البعيد لايزال بعيدا ...متى يعود؟...ضربت في خطوات حجم البعد وثقل الذاكرة علّها تلمح طيفه حافيا أو منتعلا كما جرت العادة في عوداته السّابقة التي نسيت عددها ... اشتقت خبزها السّاخن الّذي ينزل على الأحشاء السّكينة والدّفء .سأجمع كلّ قواي كي أصلها ،لأستلطف لهبة الجمر في طقوسها المتناثرة الأهواء.سنجتمع من جديد حول أنسنا الوحيد في وحشة الصّبر ...الصّبر ...آآآآآآآآه ،تلك الأيقونة الماردة ،حيث تشرّع للانتظار الدّائم خارج الزّمن ولا تعيى ،وتفصح عن طبيعة عميقة في المغاير من الرّهبة المرتجّة أمام انفتاحنا وشساعة المطلق على ضيقه ...تلك التّيمة المتربّصة بالعمر ...بانتصاراته القريبة والبعيدة ... وأنت ؟ أيّتها الدّابة ،سألهدك حتّى تطوي الصّبر ...تطوّعيه لمسافاتك ...تسرقيه منّا ...فلا يعود غير الفعل نوّاسك الذي لا يكلّ الارتداد الموقّع نحوي . ماذا دهاك ؟ لقد أشبعت جوفك الفارغ علفا البارحة ،ألم أقل لك أنّنا على سفر؟ .
تطلّعت في كبد السّماء ...نظرت سراب الحرّ يعلو ،ثمّ يعلو في شكل اسطوانيّ حتّى كاد يغلّف محيطها الذي اجتهدت في أنسنته. لمحت الحيرة مرتسمة على ملامح حملها الوديع ،لقد وضعته أمّه بين يديها في ليلة كثر عواء ذئبها ،ونهيق حمارها الذي بات يتقلّب كالأجرب وكأنّ حيّة فحّت في روثه العطن الأديم . تبعت عيناها نطّات الحمل ،كنت مثلك ،ولدت هناك على الربوة ثمّ تعلّمت النّط ...حتى كان ذلك اليوم الذي قطع طريقي ذاك المزّمّل بالأردية الخشنة ...لم يكلّمني وإنّما نزل على "الدّوار" ضيفا مبجّلا ...ولم أفقه الحديث الذي أصرّ به لوالدي، ولم أطّلع على فحوى الصّرة التي رمى بها لأمّي ، فتلقّفتها،واعتكفت بها خلف الخباء ...فقط أذكر نظراته الشاردة نحوي طيلة يومين قضّاهما عندنا لاقتفي أثره في ثالثهما وأنا أجرّ "مخلاة الشّعير " للدابة التي كانت ثالثتنا نحو المجهول
-ترين ذلك الجبل ؟
-لا أرى ...أنا أمشي
- ارفعي نظرك
- ولكنك تحجب الرّؤيا
- تعالي ..
صعدت ظهر الدابة، فتضاعف حملها لكنّني الأكيد أنّني أخفه وقعا على ظهرها ،تحمّلتني على مضض ... تذكر يومها ؟ لقد انشغلت بالمحبس المحيط ببنانك الذي كنت تشير به إلى الجبل ،كان محبسا مميزا يحمل قبّة سوداء ...أغفلت أمر الجبل يومها .و ظلّ محبسك العجيب يسترعي انتباهي ...صرّ يومها قلبي خفقا متلعثما وجعلت أهدهده بوضع يدي على صدري
كانت سنواتي العشر عاجزة عن بثّ الهدوء والطّمأنينة في مياهه الغضّة. أسرعي أيتها الدّابة الحرون ...ألم تتعوّدي طبعي بعد ؟...سأجلدك حتّى تظهر عظامك ...سحقا لدوابّ هذا الزّمن الرّديء .كان عليّ اقتناء "درويشة" لكن أخشى صوتها المزعج سيحيّر راحة القبور.
هيّا بنا الفجر خلّفنا وراءه ، سيجعلنا عرضة لتطفّل الرّعاة.
عادت إلى خيمتها بعد أن ذابت توقّعاتها مع تصاعد خيوط الشّمس نحو محور السماء العموديّ الإشراق . جعلت الخوان أمامها ...أوكلت لحسّها ريادة الحركات التي تقترفها يدها جيئة وذهابا ،تقلّب ما حوى من أصفر ناصع شديد البريق
وزّعت أناملها فوقه ...ارتدت "ربع الدّنيا" الواسع الحلق ،التمع صدرها وازداد بريق خفقه ..حاولت جعل طاقم ثلاثيّ الأسطر على جبينها ...زادت لهبة الضّوء حولها ...انعكس البريق بعيني الحمار ففرّ هاربا وغادر المخدع النتن الرائحة مكرها ...التقطت حلقة وجعلتها تخترق أنفها ...فذعر الديك من على ربوته وصفّق بجناحيه وتبعته الدجاجات وقد أطلقت ساقيها للريح. مررت أناملها مرّة أخرى على الخوان الذي مازال يحتفظ بباقي البريق ...اشتد اللهب حولها أكثر فأكثر ...اكتسحت معصمها حلقة ناصعة فأخرى ...فاتسعت دائرة الضوء حول هامتها المتسربلة بالبريق و سرت في كامل جسدها قشعريرة ملفوفة بنشوة غريبة .و كأن باب مغارة انفتح في وجهها ...الحمل ينطّ وأمّه تحرسه دون أن تفطن إلى ابتعاده بها ...بل تصرّ على أن تتبعه ... الخوان مازال يشتعل بريقا ،وهي تحمل ما عليه وتضعه في أماكن مختلفة من جسدها ...البريق يزداد حولها وقد بدأ يتقلّص من على الخوان ...وهي في غفلة عما يدور حولها .
تبا أيتها الدابة تتنكّر لي خطواتك بعد طول المعاشرة ...ألم أربّيك على يديّ حتّى اشتدّ عودك ؟ وقد أطعمتك ما لم تحلمي به ؟
يالك من ناكرة ،إن نهض الموتى من قبورهم لصلصلة حوافرك على الصخور سيذهب كلّ تعبنا هباء ...سحقا للدّواب ...
أجالت نظرها فيما ألقت على جسدها الملتهب وطفقت تطوف حول الخوان ،تدور ،واللهب يدور معها ،تدور والمواشي تبتعد ...تدور والحمار يبتعد هو أيضا وقد لمح سراب أتان تنحدر عند الوادي ...أخيرا تبع السراب وتناسى وهنه وثقل البطن ...بقيت هي تدور وبعض الخيوط المشتعلة لهبا على الخوان في انسجام رائق ...في غفلة عن الغائب والزمن ...
اقترب من سدرة على الربوة المطلّة على الخيمة .وكانت الدّواب قد هجرت المراح تماما لفرط البريق ،وما كاد يضع ساقه على الطريق الواصل بين السدرة والخيمة حتّى دوّى لهيب مقابل مخلفا دخانا أزرق في الهواء
صاح لفرط البريق الذي تلبّس به :
- يا "خوانجيّة" فرّي بلهيبك ...فقد ألهبوني ...."
أسرعت في طيّ جلد الشّاة الغزير الصّوف ...كان ذاك الكائن الصّوفيّ أقرب دفء إليها ،يمنعها تطفّل لسعات البرد طيلة الليلة الماضية .نفّست سجف الخيمة المتآكلة .رأت البعيد لايزال بعيدا ...متى يعود؟...ضربت في خطوات حجم البعد وثقل الذاكرة علّها تلمح طيفه حافيا أو منتعلا كما جرت العادة في عوداته السّابقة التي نسيت عددها ... اشتقت خبزها السّاخن الّذي ينزل على الأحشاء السّكينة والدّفء .سأجمع كلّ قواي كي أصلها ،لأستلطف لهبة الجمر في طقوسها المتناثرة الأهواء.سنجتمع من جديد حول أنسنا الوحيد في وحشة الصّبر ...الصّبر ...آآآآآآآآه ،تلك الأيقونة الماردة ،حيث تشرّع للانتظار الدّائم خارج الزّمن ولا تعيى ،وتفصح عن طبيعة عميقة في المغاير من الرّهبة المرتجّة أمام انفتاحنا وشساعة المطلق على ضيقه ...تلك التّيمة المتربّصة بالعمر ...بانتصاراته القريبة والبعيدة ... وأنت ؟ أيّتها الدّابة ،سألهدك حتّى تطوي الصّبر ...تطوّعيه لمسافاتك ...تسرقيه منّا ...فلا يعود غير الفعل نوّاسك الذي لا يكلّ الارتداد الموقّع نحوي . ماذا دهاك ؟ لقد أشبعت جوفك الفارغ علفا البارحة ،ألم أقل لك أنّنا على سفر؟ .
تطلّعت في كبد السّماء ...نظرت سراب الحرّ يعلو ،ثمّ يعلو في شكل اسطوانيّ حتّى كاد يغلّف محيطها الذي اجتهدت في أنسنته. لمحت الحيرة مرتسمة على ملامح حملها الوديع ،لقد وضعته أمّه بين يديها في ليلة كثر عواء ذئبها ،ونهيق حمارها الذي بات يتقلّب كالأجرب وكأنّ حيّة فحّت في روثه العطن الأديم . تبعت عيناها نطّات الحمل ،كنت مثلك ،ولدت هناك على الربوة ثمّ تعلّمت النّط ...حتى كان ذلك اليوم الذي قطع طريقي ذاك المزّمّل بالأردية الخشنة ...لم يكلّمني وإنّما نزل على "الدّوار" ضيفا مبجّلا ...ولم أفقه الحديث الذي أصرّ به لوالدي، ولم أطّلع على فحوى الصّرة التي رمى بها لأمّي ، فتلقّفتها،واعتكفت بها خلف الخباء ...فقط أذكر نظراته الشاردة نحوي طيلة يومين قضّاهما عندنا لاقتفي أثره في ثالثهما وأنا أجرّ "مخلاة الشّعير " للدابة التي كانت ثالثتنا نحو المجهول
-ترين ذلك الجبل ؟
-لا أرى ...أنا أمشي
- ارفعي نظرك
- ولكنك تحجب الرّؤيا
- تعالي ..
صعدت ظهر الدابة، فتضاعف حملها لكنّني الأكيد أنّني أخفه وقعا على ظهرها ،تحمّلتني على مضض ... تذكر يومها ؟ لقد انشغلت بالمحبس المحيط ببنانك الذي كنت تشير به إلى الجبل ،كان محبسا مميزا يحمل قبّة سوداء ...أغفلت أمر الجبل يومها .و ظلّ محبسك العجيب يسترعي انتباهي ...صرّ يومها قلبي خفقا متلعثما وجعلت أهدهده بوضع يدي على صدري
كانت سنواتي العشر عاجزة عن بثّ الهدوء والطّمأنينة في مياهه الغضّة. أسرعي أيتها الدّابة الحرون ...ألم تتعوّدي طبعي بعد ؟...سأجلدك حتّى تظهر عظامك ...سحقا لدوابّ هذا الزّمن الرّديء .كان عليّ اقتناء "درويشة" لكن أخشى صوتها المزعج سيحيّر راحة القبور.
هيّا بنا الفجر خلّفنا وراءه ، سيجعلنا عرضة لتطفّل الرّعاة.
عادت إلى خيمتها بعد أن ذابت توقّعاتها مع تصاعد خيوط الشّمس نحو محور السماء العموديّ الإشراق . جعلت الخوان أمامها ...أوكلت لحسّها ريادة الحركات التي تقترفها يدها جيئة وذهابا ،تقلّب ما حوى من أصفر ناصع شديد البريق
وزّعت أناملها فوقه ...ارتدت "ربع الدّنيا" الواسع الحلق ،التمع صدرها وازداد بريق خفقه ..حاولت جعل طاقم ثلاثيّ الأسطر على جبينها ...زادت لهبة الضّوء حولها ...انعكس البريق بعيني الحمار ففرّ هاربا وغادر المخدع النتن الرائحة مكرها ...التقطت حلقة وجعلتها تخترق أنفها ...فذعر الديك من على ربوته وصفّق بجناحيه وتبعته الدجاجات وقد أطلقت ساقيها للريح. مررت أناملها مرّة أخرى على الخوان الذي مازال يحتفظ بباقي البريق ...اشتد اللهب حولها أكثر فأكثر ...اكتسحت معصمها حلقة ناصعة فأخرى ...فاتسعت دائرة الضوء حول هامتها المتسربلة بالبريق و سرت في كامل جسدها قشعريرة ملفوفة بنشوة غريبة .و كأن باب مغارة انفتح في وجهها ...الحمل ينطّ وأمّه تحرسه دون أن تفطن إلى ابتعاده بها ...بل تصرّ على أن تتبعه ... الخوان مازال يشتعل بريقا ،وهي تحمل ما عليه وتضعه في أماكن مختلفة من جسدها ...البريق يزداد حولها وقد بدأ يتقلّص من على الخوان ...وهي في غفلة عما يدور حولها .
تبا أيتها الدابة تتنكّر لي خطواتك بعد طول المعاشرة ...ألم أربّيك على يديّ حتّى اشتدّ عودك ؟ وقد أطعمتك ما لم تحلمي به ؟
يالك من ناكرة ،إن نهض الموتى من قبورهم لصلصلة حوافرك على الصخور سيذهب كلّ تعبنا هباء ...سحقا للدّواب ...
أجالت نظرها فيما ألقت على جسدها الملتهب وطفقت تطوف حول الخوان ،تدور ،واللهب يدور معها ،تدور والمواشي تبتعد ...تدور والحمار يبتعد هو أيضا وقد لمح سراب أتان تنحدر عند الوادي ...أخيرا تبع السراب وتناسى وهنه وثقل البطن ...بقيت هي تدور وبعض الخيوط المشتعلة لهبا على الخوان في انسجام رائق ...في غفلة عن الغائب والزمن ...
اقترب من سدرة على الربوة المطلّة على الخيمة .وكانت الدّواب قد هجرت المراح تماما لفرط البريق ،وما كاد يضع ساقه على الطريق الواصل بين السدرة والخيمة حتّى دوّى لهيب مقابل مخلفا دخانا أزرق في الهواء
صاح لفرط البريق الذي تلبّس به :
- يا "خوانجيّة" فرّي بلهيبك ...فقد ألهبوني ...."