عن كتاب: لبيك لمالك بن نبي

هذه الرواية كانت عمله الثاني في قائمة نشر أعماله، فقد أصدر عمله المهم: "الظاهرة القرآنية" عام 1946م، وبعد عام (1947م) أصدر هذه الرواية، وكلا العملين بالفرنسية، ولم تلن العربية له ليكتب بها إلا في وقت متأخر بعدما هاجر لمصر وطور لغته.
ترجم الرواية زيدان خوليف، الذي كتب اطروحة الدكتوراة في السوربون عن مالك بن نبي، وهو واحد من قائمة الباحثين الذين كتبوا عن مالك رسائل جامعية عديدة في البلاد العربية وفي أوربا وأمريكا، ولم يزل تتابع هذه الأبحاث منذ ثلاثين عاما.
في رواية "لبيك" حشد روحي جميل استطاع أن يصف فيه حجاج الجزائر والمغرب، وسفينتهم، وأن يقص القصة من خلال تائب يتوب فجأة، ويستطيع أن يلحق بالسفينة وطفل يفلح في أن يتسلل إليها بعد رهان مع الأطفال في الحيّ أن يلحق بالمركب ويحج مع الحجاج، وتنوء الرحلة بوصف النيات الطيبة والمعرفة القليلة، والتوبة الصادقة، مما جعلها رحلة حج وثيقة الصلة بشخصيات الرواية، ووثيقة الصلة بكاتب لديه روح تحنّ للحج وللرحلة وللتوبة، وتنتقد الساخرين بالحج من الغربيين ممثلين بـ(ربان السفينة).
إنها تمثل رحلة روحية، وتعبر عن هيام المسلم بالحرم، ومنازل الأسلاف، أحيانا يشدك النص وتتعاطف مع شخصيات الرواية، ويكاد يجعل بدنك يقشعر رحمة وتعاطفا مع قروي أو بدوي يعنو من بعيد ليلحق بسفينة الحجاج على الشاطئ التونسي، ثم يرده الأمن من السفينة، لأنه لم يستكمل أوراقه فيحاول ويمسك به الناس وتتحرك السفينة وهو يصرخ شاكيا مناديا ومشهدا لرسول الله إنه جاء صادقا راغبا من مكان بعيد ولكنهم لم يسمحوا له بإتمام الزيارة إلى بلد الحبيب.
رواية قصيرة ليست بذات مكانة كبيرة إلا لمن يحب أن يعرف كتابة مفكر عملاق في صورة أخرى عندما حاول أن يمارس فن الرواية، ثم لم يتابع في هذا الطريق، ولعله أدرك في هذا العمل أن الرواية ليست مما يصلح له فتركها إلى غير رجعة، إذ الرواية لا تسمح بزحام الأفكار، بل تعنى بصنع الشخصيات وبالصور والخيال واللغة، ولعلها أثقلته فتركها، ولكنها قياسا على نجابته الفكرية مغامرة متعبة للتنقل بين طرفي الموهبة.
عمل المترجم جهد مشكور، غير أن النص كان محتاجا للتحرير، وقد تمنيت لو اعتنى المترجم بعمله أكثر وأتقنه، فقد ظهر النص عليلا أحيانا، وأشك أن يكون الأصل كذلك، فأنت مثلا تجد عبارة كقوله: "فظهر شخص مرتديا لباسا أبيض تاركا خلفه صفق الباب نصف مفتوح واتجه بخطا صغيرة.."، ص 32، فماذا تفهم وماذا تصحح أو تتوقع أنه الصحيح؟، وقوله: "خيم ضباب خبازي على الزقاق؟" ص 52، و: "سماء لونها خبازي"، ص 53، أو: "تكوم على كتفي الباب"، ص 52، أو عبارة: "فليكافئك الله على صنيعك" ص 118، فهذه العبارة ليست في سياق الاستخدام العربي فضلا عن لغة الحجاج، بل أبقاها في لباس العجمة، فهل يقصد جزاك الله خيرا؟، وكذا: عبارة "دلو القهوة" ص 119، لم يسبق لعربي أن جعل للقهوة "دلوا"، فهل كان يدّلي من ماء البحر وهو على السفينة أو من بئر، ألم يجد المترجم كلمة عربية تقترب من مراد الكاتب كـ"إبريق"، ولو أبعد، فقال "قدر القهوة"، لكان أقرب لماعون تطبخ فيه القهوة ويتساهل مع المسافر لقلة مواعينه، والدلو من الجلد قديما أو البلاستك الآن، ولم تكن القهوة تحضر فيه، أو يبحث عن شيء مقارب.
لقد حز في النفس أن نصا لمالك كان يستحق أحسن من هذا الإخراج، ومالك هو من هو في احترامه للغة العربية، وكان مهووسا بها يتمنى أن ينقي لغته لتبلغ آفاقها، وكان يعشق اللغة العربية وتراثها مما جمعه في مجالس عشاقها، كمحمود شاكر، وكان من شهود مجلسه، وكذا تعمقه في اللغة الفرنسية لا يخفى، لقد أصيب عمل مالك في هذا النقل بداء زماننا من ضعف اللغة لا الكاتب.
ختاما، لقد حافظت الترجمة على السياق الفني في رواية غربية الأسلوب إسلامية الروح، وأشكر للمترجم أن أخرج لنا هذا النص من ظلام النسيان، وقد غاب ثم عاد لأهله زمنا طويلا، بعد عودة صاحبه الذي لم يغترب روحا ولا فكرا وإن تغرب ببدنه طويلا.
بقلم د. محمد الأحمري/ مجلة العصر