/

مقال الرأي

أحوال الناس

العقل العربي بين استقالة الكبار والثورة الدّماغية للصغار

محمد الحمار/ الـ"فوتبول" والـ"كارتون" والـ"كمبيوتر". هذا الثالوث يحدث منذ ما لا يقلّ عن عقد من الزمن ثورة ‏حقيقية في السلوك الدّماغي عند الشباب في كلّ مجتمع تجمّعت فيه النشاطات الثلاثة وبلغت فيه ما يسمّيه ‏علماء تسرّب الأوبئة " الاستعارة شكلية ولا تعكس المضمون " نقطة انطلاق العدوى أوالـ"تربنغ بوينت" ‏باللغة الأجنبية أي مستوى من الاستعمال له من الارتفاع ما يكفي لأن يتحوّل نشاط معيّن من طور ‏الرياضة الشعبية الأولى مثلا "كرة القدم" أو الفنّ السمعي البصري الحديث " الصور المتحرّكة" أو ‏الوسيلة التقنية الحديثة الجديدة "المعلوماتية" إلى سلوك واسع الانتشار.‏ و الثورة التي أحدثها الثالوث المجنون هي عموما عبارة على تحوّلات تراها العين المجرّدة لمّا تتثبّت في ‏طريقة تعامل الشباب مع الواقع حيث أنّ هؤلاء صاروا، كما سنرى لاحقا، "يتلاعبون" بما يدركونه من ‏أفكار و"يرقّصون" ما يجول بصدورهم من أحاسيس و"يرتّبون" ما أفسدوا ترتيبه من خواطر، كأني بهم ‏يجرّبون – بالفطرة- تطبيقات من مجالاتهم المفضّلة الثلاثة فرضت نفسها عليهم وتقبّلوها برحابة صدر. ‏ أمّا الذي استرعى انتباهي على صعيد آخر وبدا لي كأنّه الكفّة الأخرى لنفس الميزان فلا يمتّ بصلة ‏لوسائل الترفيه "والعمل" الثلاثة التي تروق خاصة للصغار، بل له، في المقابل، كلّ الصّلة بما فسد من ‏سلوك الكبار. فوضعية مجتمعاتنا إزاء مسائل التقدّم وسياسات الإنماء وضعية يشوبها نوع من البعثرة ‏وعدم الانسجام. وكأنّي بها في وضع "فوضوي" "نسبة للنظرية العلمية للفوضى" يشبه كثيرا – في ‏فوضويته- وضع الشباب وهم يمارسون، بدون تأطير ولا إدارة، مجمل الحركات والإيحاءات والإيماءات ‏التي تعلّموها "بدون سابق علم من أحد" من استئناسهم بثالوث الإمتاع والمؤانسة.‏ و يتجسّم وضع الكبار في ما يلي: : نقض المقولة الشهيرة "الرجل المناسب في المكان المناسب". ‏فالمدرّسون الممتازون عندنا عادة لا تستهويهم وظيفة متفقّد التعليم.والذين لا يفارقون المساجد في قرانا ‏ومدننا ليسوا هم المنادون بالإصلاح الديني. والذين يناضلون من أجل حرّية الصحافة ليسوا من ‏الصحفيين.والذين يمسكون بناصية القليل من التكنولوجيا التي في حوزتنا ليسوا هم الموالون للعصرنة. ‏والذين يعملون من أجل التعريب وتطوير اللغة العربية ليسوا من مدرّسيها وهلمّ جرّا.‏ والذي يهمّني أن أفهمه بإزاء ما سبق هو: هل يمكن أن تكون هنالك علاقة من النوع البنّاء بين النمطين ‏من "الفوضى"، الفوضى المتأتّية من بوتقة الافتراضي والرياضي "الثالوث" في عالم الشباب، والفوضى ‏المسجّلة في عالم الواقع لدى الكبار"عدم وجود الرجل المناسب في المكان المناسب"؟ فلنسلّط أولا بعض ‏الضوء على نشأة الثالوث المجنون في مجتمعاتنا ثمّ نحاول اكتشاف ما قد يطيب استخدامه من أجل ‏المنفعة التربوية. ‏ فلئن بدأت ممارسة اللعبة الشعبية في الوطن العربي منذ ما يناهز القرن * فإنه لم يتربّ السلوك الكروي ‏‏ ولم يترعرع لدينا حتّى أصبح اليوم ظاهرة تتطلّب الدراسة، إلاّ في السنوات الأخيرة. وهذا النموّ تزامن ‏خاصة مع توسيع رقعة مشاهدي الكرة على شاشة التلفزة و بروز التلفزة العربية المشفّرة في السنوات ‏القليلة الماضية.‏ و مظاهر السلوك الكروي بالذّات تتجسّم بالخصوص في ما نسمّيه عندنا في تونس بـ"الدّخلة" "إلى ‏الملعب" وهواحتفال يسبق بداية كلّ مباراة هامة ببضع دقائق تتجلّى فيه أبهى وأرقى مظاهر التزويق ‏والإنشاد. ولم يكتف شبابنا بذلك النمط من التعبير بل ها هو يدرج برنامجا كاملا لـ"الدخلة" في اليوم ‏المخصص لخوض اختبارات الباكالوريا "الثانوية العامة" في مادة الرياضة.وقد شهدت نهاية شهرأفريل ‏‏"نيسان" من هذه السنة فعاليات أحرجت سلطة الإشراف التربوي وأيضا أحدثت بعض الفوضى في ‏الطريق العام.‏ أمّا الملفت للإنتباه من الناحية الدماغية – وهو موضوعنا- هو أنّ كل شاب تقريبا تراه يتفنّن ويبدع في ‏تخيّل اللقطات الرياضية التي لم يقم بها اللاعب الفلاني أو اللاعب العلاّني ،أو كان عليه أن يقوم بها، ثمّ ‏يتفنّن في ترجمتها إلى حركات. وكأنّي بكلّ من يهوى هذه الرياضة صار أخصّائيا مزاحما لأفضل ‏المدرّبين ولأقوى اللاعبين في فنون القفز والرقص والترقيص والمراوغة والتسلّل.وطالما أنها حركات ‏ناجمة عن إشارات دماغية،ممّا يثبت الترابط الوثيق بين الجسم والدماغ، فأصبح من الضروري أن يحيط ‏المربّون، بعناية فائقة، تلك الانفعالات السلوكية الجسمانية المرفوقة بآليات التخيّل والتّدليل والاستنباط ‏والإثبات وغيرها من آليات الاشتغال الدماغي الذي يستخدمها المتفرج و المشاهد. بكلام آخر، لا بدّ أن ‏يستغلّ المربّون هذه الظاهرة بعنوان التماثل الكيفي بينها وبين ما يعرف في مجال التعليم بـ"زوبعة ‏الدماغ". و بخصوص الـ"كارتون" فحدّث ولا حرج. فمنذ بضعة أعوام كانت دهشتي كبيرة لمّا أخبرني طلاّبي في ‏الثانوية العامة أنّ نهمهم في متابعة أفلام الصور المتحرّكة، على عكس ما كنت أتصوّر، قد ازداد و أنّ ‏أبطالهم هذه الأيام بدءا بـ "بليتش" و مرورا بـ"نانا" ووصولا إلى"داث ناوت" قد تفوق أحيانا شهرة ‏‏"زورو" و"طارزن" عند شباب جيلنا. وليس من الصعب على مدرّس ينوي إقامة مقارنة بين السلوك ‏الحالي "ما بعد الـ"كارتون"" بالسلوك القبلي للطفل أو للمراهق أن يلاحظ "كرتنة" جليّة للسلوك البعدي ‏‏"بفتح الباء" حيث أنّ شباب اليوم صاريعبّر عن وجوده بحركيّة جدّ مماثلة لتلك التي نراها عند أبطال ‏الصور المتحركة. إنهم باتوا أكثريقظة في سلوكهم أثناء التفكير وأكبر"دهاء" في إدراك المعلومة أو ‏النكتة أو العبرة أوالمشكلة من ذي قبل.وهذا ممتاز لوعرف المدرّسون كيف يستغلّونه خير استغلال، ‏أيضا بناءا على أنّ المشهد الذي يفرزه تلاطم الإيحاءات والإيماءات وتفكّك الأحداث هو نظير المشهد ‏الذي تخلّفه "زوبعة الدماغ" في العملية التربوية المدرسية . أمّا عن المعلوماتية فيكفي أن نلاحظ الإقبال الرهيب لدى الشباب وكثير من ميسوري الحال من الكهول ‏على ألعاب الـ"الكنصول" وعلى تطبيقات الحاسوب المتعددة لكي ندرك أنّ المسألة تتعدّى الحمّى ‏العرضية لتصبح عملية دماغية "فضلا عن دورها الظاهري في الترفيه والتسلية والتثقيف" تعرضها ‏علينا الحداثة بكلّ جرأة وعنف لا بدّ علينا أن ندير وجهتها حيث تشاء حاجيات التقدّم لدينا، وإلاّ هبّت ‏زوبعتها على الأخضر واليابس في أرض ثقافتنا.‏ ولئن حدثت نشأة الـ"فوتبول والكارتون والكمبيوتر" "ف- ك- ك ؛ فكّك؟" كلّ واحدة على حدة فيبدو أنّ ‏العولمة فرضتها في ثالوث متماسك ورهيب: أليست سلسلة "الكابتن ماجد" تجسيما لهذا الإتحاد بين الكرة ‏و الصورة المتحرّكة من جهة، وبين الرياضة والتكنولوجيا الرقمية من جهة أخرى؟ وأليس ‏الـ"البروإيفولوشن" أيضا تسجيدا للمزج بين فنّ الكرة والتفنّن الرقمي؟ وهذا ما يضاعف الزوبعة ‏الدماغية بثلاث فيصير الضرر" الذي قد يحصل نظريا في غياب التجذير المعرفي والثقافي" ثلاثا، و ‏الجهد المطلوب للإنقاذ منه كذلك،والسعي من أجل الإفادة و الاستفادة من الوسائل الموجودة كذلك. ومن زاوية أخرى نرى أنّ مسؤولية المتابعة لا تقتصر على تربية جمهور الشباب على أفضل الطرق ‏لاستخدام ثالوث الترفيه وشحذ آليات التفكير، بل تنطوي أيضا على إصلاح ما سمح بتعريته الثالوث من ‏شوائب في عالم الكبار. فحدود نموّ الوسائل الثلاثة ليست واضحة بشكل علمي "ربّما في غياب دراسة ‏في هذا الصدد" ولكنّ الذي تسمح لنا برصده طريقة الفينومينولوجيا قد يكون كاف لا فقط لشحذ عزائم ‏المربّين من أجل حصول الإفادة والاستفادة لدى شبابهم من الطلاّب، وهم الذين يجب أن يسعدنا ولعهم ‏بالثالوث العجيب، ولكن أيضا لإنذارنا بالخطر المحدق في مجالات نشاط الكبار. وليس لمجتمعاتنا أي ّ ‏خيار سوى التضحية بمن كبر منّا على مواكبة حمّى الصغار، وبمن لا يكسب المهارة في مغازلة ‏التكنولوجيا وفي بناء ما تسمح به هذه من ثنائيات مع أشكال معرفية قديمة، وبمن لا يقدر على اعتماد ‏التكنولوجيا وما جدّ من أشكال معرفية بفضلها، في أيّ تشييد صحّي وخال من التسوّس التاريخي ‏‏"والتاريخاني" للمستقبل، و في كلمة، بمن فاته أوان التربية.‏ فالعقل العربي مطالب، في ظلّ الثورات الدّماغية الثلاث، بتشبيب نفسه. وليس التشبيب باستبدال من ‏أحيل على المعاش بمن تخرّج لتوّه من الكلّية أو"البوليتكنك"، بل أوّله إدراج لمسلّمة "الرجل المناسب في ‏المكان المناسب" ضمن أوكد حاجياتنا ، وآخره تأهيل للعقول يرمي إلى استبطان قيم التكنولوجيا ابتغاء ‏شحذ مهارات التفكيك وإعادة التركيب لدى الشباب حتّى تحين ساعة تبليط ما تمّت تعريته من سبل كان ‏يغشاها الحطام و تسوية ما تمّ تقويمه من طرق كانت معوجّة.‏ لقد قال الأقدمون إنّ ربّ ضارّة نافعة، و أليس حريّ بنا أن نقول أيضا إنّ ربّ زوبعة نافعة طالما أنّ من ‏الزوابع في العقل العربي والمنابع ما يجب أن يتابع بكلّ دقّة وطوارئ؟

** منشور بصحيفة "العرب اللندنية" - 25 مايو 2009